من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله
الجهر بالنيل من النظام الملكي أخطر على المغرب وأمنه واستقراره من جرائم 16 ماي
في هذه المقالة يناقش العالم عبدالباري الزمزمي،رادا علىتصريحات ندية ياسين المنادية بالجمهورية من داخل النسق الفكري الذي يؤطر أفكارها، وفكر جماعتها، نقاشا هادئا بعيدا عن لغة البيانات وعبارات التنديد والأحكام المسبقة....
يقول الله عز وجل: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم). منذ ثلاث سنوات أو تزيد قليلا، كان اليهودي اليساري أبرهام السرفاتي قد قال في بعض حواراته الصحفية إنه قد لا يطول عمره حتى يعيش العصر الذي يكون المغرب فيه نظاما جمهوريا
وكنت قد كتبت _آنذاك- في الرد عليه وبيان ضلاله وتخريفه. ونشر الرد في صحيفة (الأيام) التي كانت قد نشرت الحوار المذكور، علما بأن مثل هذا القول ليس بغريب ولا عجيب أن يصدر من يهودي يساري طعن المغرب في وحدته الترابية وسيادته الوطنية، رغم كونه يعيش في المغرب ويحظى فيه بالتأليه والتقديس عند قوم لا يومنون فمثل هذا اليهودي اليساري إذا طعن في النظام الملكي وانتظر له الزوال فإن قوله خرج من معدنه وجاء على أصله (ومن جاء على أصله فلا سؤال عليه) (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر
لكن الغريب والعجيب والمستهجن أن يصدر مثل هذا القول ـ بل وأشد منه ـ من قوم نبتوا من أرض المغرب وترعرعوا تحت سمائها وظلالها ويعتزون بتاريخها وبأصولهم التي ينحدرون منها ويقدسون أدارستها ومن جاء بعدهم من صالحي ملوكها، ثم هم يتنكرون لذلك كله ويتجاهلونه ويقولون إن النظام الملكي غير ملائم للمغرب وأنه آيل للسقوط، وأن النظام الجمهوري هو الأنسب والأمثل لهذه البلاد
. إنه من المقبول أن ينتقد المرء سياسة البلاد وأوضاعها المتردية ويوجه اللوم إلى المسؤولين الذين يراهم مقصرين في القيام بما أنيط إليهم من أعباء، ويطالب باستبدالهم بمن هم أصلح للبلاد وأقدر على تحمل المسؤولية، بل إن هذا الموقف واجب على كل فرد غيور على وطنه وحريص على استقامة أموره واستقرار أوضاعه، أما أن يتطاول متطاول على النظام الملكي وينال من حرمته ومكانته في البلاد، فذلك ما ليس بمقبول ولا معقول لكونه موقفا غوغائيا لا يرمي إلى غاية صالحة ولا يهدف إلى مقصد صحيح
إن قضية النظام الملكي إنما طرحت للنقد والرفض عند اليسار الذين تمردوا على مقومات البلاد ومقدساتها وثوابتها، وكان من بينها النظام الملكي الذي حاولوا ـ فعلاـ أن ينقضوا عليه منذ السنوات الأولى للاستقلال ويزيحوه من طريقهم ليمكروا بالبلاد مكرهم الكُـبَّـار ويودوا بـها إلى الدمار والبوار، ولكن الله عز وجل رد كيدهم في نحورهم ودرأ عن المغرب وشعبه ما دبروا له من شر مستطير وهول كبير
. أما أولو الرشد والبصيرة من المغاربة فإنهم لا ينازعون الأمر أهله ولا يبغون عن النظام الملكي حِوَلا ولا يطلبون عنه بديلا، وذلك لاعتبارات وتقديرات شرعية وسياسية وواقعية ومنطقية
أما الاعتبار الشرعي فإن الإسلام شدد في الوفاء ببعية الولاة ولزوم طاعتهم وحذر من الخروج عليهم والتمرد على سلطانهم، إلا إذا ظهر منهم الكفر البواح
. والنظام الملكي في المغرب مستظل بظل الإسلام ومصطبغ بصبغته، فملك البلاد يتباهى بكونه سبط النبي (ص) وبكونه أمير المومنين وحامي حمى الملة والدين، ودستور البلاد يقرر إسلامية الدولة، وسلوك الملك محمد السادس في خاصة نفسه، سلوك مسلم صادق يقدر الله حق قدره ويعظم القرآن ويتلى في قصره ويرفع الأذان فيه ويعظم النبي (ص) ويتعلق بحبه
. وهذه سيرته التي لا تصورها الكاميرات ولا تنقلها وسائل الإعلام وإنما يعرفها فيه من اطلع على أخباره أو كان قريبا من دائرته. والنظام الملكي لا يمنع أحدا من التمسك بدينه والتشبث بتعاليم شريعته كما يريد، تشديدا أو تيسيرا، والدعوة الإسلامية في المغرب ماضية دون توقف ولا حجر ولا انقطاع ـ وإن اعترضتها أحيانا موانع ومعوقات سرعان ما تتراجع وتزول- بخلاف ما تعرفه الدعوة الإسلامية في بعض البلاد ذات النظم الجمهورية من قمع وقهر (وتجفيف للمنابع)، إلى غير ذلك من مظاهر الإسلام ومعالمه القائمة في البلاد تحت رعاية النظام الملكي
. ومن السخافة والتفاهة أن يطالَب النظام الملكي بإقامة شريعة الله إقامة تامة ـ مائة في المائةـ ويعادى لتقصيره في تطبيقها، بينما المطالِب بذلك لم يستكمل حتى أصول إيمانه، ولم يقم شريعة الله في نفسه ولا فيمن معه ولا فيمن حوله (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون
). فلا موجب من الشريعة يوجب الطعن في النظام الملكي والمس بقدسيته وتأليب الناس عليه . وأما الاعتبار السياسي فإن النيل من النظام الملكي والإعلان بنفي الشرعية عنه وسلب الصلاحية عن وجوده هو زرع لبذور الفتنة وتحريض على خلع البيعة والسعي في تقويض النظام القائم في البلاد لا سيما وأنه صادر من قوم لهم أتباع وشيعة يأتمرون بأمرهم ويصدُرون عن رأيهم
وأذكر أن الحسن الثاني رحمه الله كان قد قال في خطابه بعد أحداث الصخيرات (1971) موجها اللوم والمسؤولية إلى أحزاب المعارضة آنذاك-: "من يزرع الريح يحصد العاصفة"، وإن الجهر بالنيل من النظام الملكي يدخل في هذا السياق، بل هو ـ بكل المعايير والمقاييس- أخطر على المغرب وأمنه واستقراره من جرائم 16 ماي التي عرفتها مدينة الدار البيضاء، لاسيما وقد تبنت فرقة العدل والإحسان هذا الموقف ولم تتبرأ منه، مما يجعله مبدأ مقبولا عند أفراد الفرقة كلهم ويجعل العمل على إبرازه للوجود وإخراجه إلى مجال التطبيق (جهادا في سبيل الله وقومة لله من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل)، كما يفكرون ويقدرون
. وقديما قال الحكماء: "لسان الأحمق أمام عقله، ولسان العاقل خلف عقله، فالأحمق يسبق لسانه عقله، والعاقل يتقدم عقله لسانه
". وأما الاعتبار بالواقع فإن النظام الملكي في المغرب ليس من هموم البلاد ولا من مشاكلها التي تستدعي حلا عاجلا أو آجلا، وما تعرفه البلاد من الهموم والمعضلات ليس راجعا إلى النظام الملكي، بدليل أن البلاد العربية والإسلامية واللادينية التي تحكمها نظم جمهورية تعاني هي الأخرى من معضلات وهموم هي أشد من هموم المغرب
. كما أن النظم الجمهورية في الدول المتخلفة في العالم ليست أحسن حالا من النظام الملكي في المغرب، بل إن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المغرب الملكي -على علتها- هي أحسن بكثير وأقوم من مثلها في كثير من البلاد التي تحكمها نظم جمهورية
. وخذ أمثلة صارخة من الجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق -قبل الاحتلال وبعده- واليمن وموريطانيا وغيرها وغيرها
. ولا أراني في حاجة إلى الخوض في تفاصيل الأوضاع في هذه البلاد ومقارنتها بالأوضاع في المغرب، فلقد أصبح العالم اليوم مكشوفا لكل متابع واع بما يرى ويسمع ثم إن النظم الجمهورية في أكثر البلاد المتخلفة ليست إلا نظما ملكية تحمل اسم الجمهورية للتضليل والتعمية، وإلا فالرئيس في هذه النظم لا تنتهي ولايته إلا بموته أو قتله أو انقلاب على حكمه
وهذا رئيس كوبا الماركسي المعادي للملكية لبث في الحكم أكثر من أربعين سنة وهي فترة لم يقضها في الحكم ملك من الملوك في هذا العصر. أما رؤساؤنا في البلاد العربية فإن لكل منهم -تقريبا- ولي عهد غير مسمى، فإذا مات الرئيس خلفه ولده (استحقاقا لا استلحاقا)، كما زعم التابعون الناعقون، ليقنعوا شعبهم أن النظام في دولتهم نظام جمهوري متحضر وليس مثل النظام الملكي الرجعي القائم على الحكم الفردي والحكم المطلق، (والفاهم يفهم). وأما اعتبار المنطق والتعقل فإنه يقضي باحترام النظام الملكي في المغرب والتمسك بموالاته ومطاوعته لكونه النظام الأمثل للمغرب والحكم الذي يضمن وحدة الشعب وتماسكه، وذلك لأن النظام الملكي نظام عريق في المغرب وضارب بجذوره في أعماق التاريخ، عايشه المغاربة على مدى قرون عديدة جيلا بعد جيل وخلفا بعد سلف، حتى صار في فكرهم ووجدانهم من مكونات البلاد وثوابتها الراسخة ومن العسير -والحال هذه- أن يقبل المغاربة بحكم بديل من النظام الملكي وتأتلف عليه قلوبهم وهم عناصر شتى ومعادن مختلفة، اللهم إلا أن يكون حكما جبارا في الأرض يقمع ويقتل ويهلك الحرث والنسل على غرار النظام (الجمهوري) في العراق الذي رغم طغيانه وجبروته لم يستطع أن يقنع كافة الشعب العراقي بحكمه ويجمع قلوبهم على نظامه
وإذا كان خصوم النظام الملكي في المغرب يُحصون عليه عيوبا ومثالب يرونها موجبة لتغييره واستبداله بخير منه، فإن مثل هذا الموقف ينم عن اختلال في التفكير وقصور في الرأي، فما من نظام من نظم الحكم -سواء كان ملكية أو جمهورية أو خلافة أو إمارة المومنين- إلا وله عيوبه وزلـله التي هي من طبائع البشر ومن سنة الله الماضية في خلقه، وكما قال الشاعر: ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
وقال آخر
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
ومن أجل ذلك أمر النبي(ص) بلزوم طاعة الولاة وحذر من منازعتهم الأمر الذي هم أهله، ولو كانوا ظالمين، لأن مناوءتهم والخروج عليهم فيه من الفتنة والبلاء ما هو أشد من ظلمهم، بل أمر صلى الله عليه وسلم باحترام أولي الأمر وحفظ مكانتهم وجعل التطاول عليهم والنيل من حرمتهم موجبا لمهانة فاعله وسقوط منزلته عند الله، فقال (ص): "من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله"، (رواه الترمذي كما في صحيح الجامع الصغير
أما البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية حول الموضوع والذي اعتبر محاكمة المتطاولين على النظام الملكي تضييقا على الحريات ومسا بحقوق الإنسان، فإنه منطق مألوف من أمريكا التي تلعب بكل الأوراق وتكيل بمكيالين وتأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. فالنيل من مقدسات الشعوب وانتهاك حرمات البلاد ترى فيه أمريكا ممارسة لحرية التعبير وتمسكا بحق من حقوق الإنسان، وذلك لتفتح الباب على مصراعيه للسفهاء والغوغاء لينالوا من مقدسات الأمة كما يريدون فيطعنون في الله عز وجل وفي كتابه وفي نبيه وفي شريعته تحت عنوان (حرية التعبير وحقوق الإنسان). أما معاداة السامية فإنها جريمة يعاقب عليها قانون أمريكا وحلفائها، فهي تفرض على الشعوب أن يقدسوا السفلة والأنذال وقطاع الطرق والمتسلطين على حقوق الناس وتلزمهم باحترامهم وتعاقب كل من قال فيهم كلمة سوء، وتحرض السفهاء على انتهاك حرمات الشعوب والاستخفاف بمقدساتها ورموزها، وهكذا تسير أمريكا بهذا المنطق في كل مواقفها السياسية من قضايا العالم
. كما أن البيان المذكور له بعد سياسي آخر يعلمه الراسخون في الهم، فأمريكا أرادت من موقفها المساند لفرقة العدل والإحسان أن تجعل من الأخيرة عصا ترفعها في وجه القائمين بالأمر في المغرب لعلهم يفقهون
وهي سياسة جديدة قررت أمريكا وحلفاؤها أن ينهجوها في العالم الإسلامي وذلك بمساندة الحركات الإسلامية في مواقفها المناوئة لحكامها ليس حبا في هذه الحركات ولكن لتجعل منها حروف جر وأدوات ضغط إلى حين
ونرجو أن لا تنطلي هذه الخدعة على الحركات الإسلامية وأن يعتبروا بقول الله عز وجل: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون
عبد البارئ الزمزمي