أمراء نبذوا مملكة السلطة واختاروا مملكة الفكر أو المال
قصة الأمير مولاي هشام مع القصر يطول شرحها. بدأت عندما تجرأ أول مرة أمير من داخل العائلة المالكة بالإفصاح عن آرائه أمام الأشهاد، وهو ما رأى فيه البلاط الملكي خروجا عن التقاليد، خاصة وأن آراء الأمير الذي أطلقت عليه بعض الصحف لقب >الأمير الأحمر< وفي الوصف هنا أكثر من إحالة، مست بنية الحكم في المغرب، وطريقة تدبير الشأن العام من قبل أعلى مؤسسة حاكمة في المغرب
تصريحات الأمير ودعواته الى إدخال إصلاحات في طريقة الحكم الملكي في المغرب، ودفاعه عن نظام الملكية الدستورية، كلها مواقف أيقظت الحرس القديم من سباتهم وجرت عليه شتائم وانتقادات المعارضين لطريقته في التفكير، ووصل الأمر الى حد تهديد "الأمير الأحمر" في حياته والتضييق على تحركاته داخل المغرب، مما حمله على حزم حقائبه والسفر الى أمريكا للإقامة بنيويورك، حيث مقر الأمم المتحدة التي سبق للأمير أن اشتغل في مؤسساتها كموظف، مما مكنه من الاحتكاك مع ثقافات وتجارب الشعوب والأمم. وعندما يعود اليوم الأمير مولاي هشام الى المغرب، يعود كمواطن (لن نقول عاديا بما أنه يحمل صفة الأمير)، وهو في عودته هذه في أبعادها الواقعية والرمزية يشبه الى حد ما تجارب أمراء تمردوا على البلاط، وعادوا ليحتفظوا باستقلاليتهم وليثبتوا أن ما حركهم هو الأفكار وليس الأطماع
وفي هذا الجانب يكاد وجه الشبه يتقارب مع حالات أخرى في ملكيات أخرى في عالمنا العربي، ولعل أقرب الحالات في هذا الصدد هي حالة الأمير الحسن بن طلال، الذي حملته أفكاره ومواقفه الى خارج سرايا الحكم بالقصر الملكي الهاشمي في الأردن. وعاد الأمير المفكر ليتأمل من بعيد وضع أمة بأكلمها بعد أن تخلص من إكراهات السياسة وثقل مراسيم البروتوكول. وقبل الأمير الحسن، الذي اختار مملكة الفكر على مملكة السلطة، عرف العالم العربي تجربة أخرى تختلف من حيث مسارها وحيثياتها عن تجربة الأمير الأردني، ألا وهي تجربة الأمير طلال بن عبدالعزيز، الذي شق عصا الطاعة على الأسرة الحاكمة في السعودية، واستطاع أن يبني لنفسه ولابنه الوليد بن طلال "مملكة" أخرى يمتد نفوذها من شرق الأرض حتى أقصى مغاربها، ممثلة في شركة "المملكة القابضة" التي يتربع اليوم على عرشها بنه الذي يصنف على رأس لائحة الأثرياء العرب وضمن الأثرياء العشرة الأوائل على الصعيد العالمي
ثلاث تجارب وثلاثة مسارات، لأمراء نبذوا مملكة السلطة واختاروا مملكة الفكر. الأمير الحسن بن طلال الذي يتربع اليوم على رأس مؤسسة فكرية تحمل اسمه، والأمير طلال بن عبدالعزيز الذي أطلق خروجه عن إجماع العائلة حريته في الإفصاح عن أفكاره التي عبر عنها في أكثر من برنامج بثته الفضائيات العربية، والأمير مولاي هشام الذي يواصل سلسلة محاضراته التي تتضمن تأملاته في واقع عربي لا يستطيع أن يعيش منفصلا عن التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. وفي القراءة للتجارب الثلاث ولمسارات أصحابها واستنباط أفكارهم، تتجلى الصورة الأخرى لواقعنا العربي الذي ما زال يحتاج الى ثورة أكثر من أمير لإصلاح الإمارة، أما الأمة فإن لها رب يصلحها.