خريطــة طريــق الملــك وإكراهــات تدبيـــر الشــأن الدينـــي
الملك يدرك جيدا أن هذا الملف الحساس الملغوم يحتاج إلى تصور جديد على أمل أن ينقله إلى ضفة الأمن الروحي، وأن تستعيد الدولة إحكام قبضتها على خيوط ومنعرجات هذا الحقل. وما أعلنه الملك أمام علماء الدولة سيعيد بدون شك رسم معالم المرحلة المقبلة، لكن دون التأكد من أن الدولة لها القدرة الفعلية على ترجمة هذه التصورات على أرض الواقع، لكن الأهم من ذلك قدرة هذا التوجه السياسي على ضبط الحقل الديني أمام منافسين يزدادون تأثيراً في الشارع.
صدمة 2003 أخرجت المؤسسة الملكية عن الكثير من الثوابت في تدبير ملف الشأن الديني بالمملكة، وكان خطاب أبريل 2004، أي بعد سنة على الأحداث الدامية بداية انقلاب هذه المؤسسة على الكثير من ثوابت تدبير هذا الملف، والتي أرساها الملك الراحل الحسن الثاني ووزير حقيبة الأوقاف على مدى 18 سنة عبد الكبير العلوي المدغري.
أربع سنوات بعد الانقلاب الأول كانت كافية للوقوف على معالم التغيير الذي أحدثته السياسة الجديدة، التي كلف بإدارتها الفقيه الصوفي أحمد التوفيق. فقد أعاد التوفيق رسم خريطة تدخل وزارته، وفروعها الممتدة عبر المغرب، بعودة إحكام قبضة الدولة على التعليم العتيق، والمساجد وأماكن العبادة، وضبط مصادر تمويل هذه الأخيرة. الملك ووزير أوقافه لم يكتفيا بذلك، بل إن السياسة الجديدة امتدت لتعيد النظر في الكثير من المؤسسات التي أفرغت من محتواها على مدى العقود الماضية، فالملك الراحل كان يرغب في مؤسسات تضمن الولاء أولا، لكن دون أن تحدث أي ضجيج في الساحة الدينية: علماء تكون لهم القدرة الهائلة على الدفاع عن خياراته، ويتم تحريكهم متى اقتضت مصالح النظام والدولة ذلك، وهذا ما أنتجته هذه المؤسسات بامتياز.
الملك محمد السادس لم يتردد في انتقاد هذه الوضعية في خطابه سنة 2004 عندما أمر بإصلاح رابطة علماء المغرب “لإخراجها من سباتها العميق وإحيائها بشكل يجعل منها جهازا متفاعلا مع المجالس العلمية”، وهو نفس الوضع الذي كانت تعيشه الرابطة المحمدية والمجالس العلمية. لكن العين لم تخطئ أهداف توجه الملك الجديد، وهي صيانة “الحقل الديني من التطاول عليه من بعض الخوارج عن الإطار المؤسسي الشرعي”. وكانت هذه إشارة واضحة من قبل الملك، فالمملكة بدأت في العقدين الأخيرين تواجه منافسين حقيقيين في هذا الحقل، وتعمل على إعادة صياغة التصور المجتمعي بمواقف توجد في كثير من الأحيان في حالة تقاطع مع خيارات الدولة، وتصورها لإدارة هذا الملف. ومن هنا يمكن فهم تشدد الدولة في إعادة إحكام قبضتها على مجال الفتوى، »سدا للذرائع وقطعا لدابر الفتنة والبلبلة”، فالدولة لا ترغب في بروز منافسين لها في هذه المجالس، وقد أظهرت فتوى يوسف القرضاوي المتعلقة بالقروض، والفتوى الأخيرة للمغراوي حساسية هذا الملف، ولا يمكن تحقيق ذلك دون إعادة بث الروح في مؤسسات الدولة، التي دخلت نفق أهل الكهف بشهادة الملك. ومن هنا جاء تأسيس المجلس العلمي الأعلى الذي أصبح هو المكلف رسميا بمجال الفتوى، فأحمد التوفيق وزير الأوقاف يعتبر كل ما يقال خارج هذه المؤسسة مجرد آراء وليست فتاوى يمكن أن توجه المجتمع، وكان هذا واضحا في تعامل هذا الأخير مع الكثير من الآراء التي عارضت هذا التوجه.
فالتوفيق الذي كلف بترجمة تصورات الملك في إدارة الملف الديني يريد إحكام قبضة إمارة المؤمنين على هذا الملف الذي خلق دائما صراعا لهذه المؤسسة عندما كانت تجد نفسها في صراع مفتوح مع كثير من العلماء المعارضين لتأميم مجال الفتوى.
لكن ما الذي دفع الملك لإعلان نسخته الثانية في رسم معالم طريق الخريطة الدينية؟ وهل استطاعت قرارات أبريل 2004 تحقيق أهداف سياسة الدولة في إعادة هيكلة الحقل الديني بعد الخروج من حالة الصدمة التي خلفتها أحداث ماي 2003؟ ولكن قبل هذا أو ذاك هل أصبحت الدولة تحس أنها بدأت فعلا تستعيد زمام المبادرة في مراقبة وكذا السيطرة على الحقل الديني؟
يحلو لوزير الأوقاف أحمد التوفيق أن يصف كل ما يقوم به داخل وزارته طوال السنوات الست التي قضاها في فك خيوط قطاعه بأنه يندرج في إطار تصور متكامل وسياسة واضحة، وأنه، وهذا الأهم بالنسبة إليه، لا يدخل في إطار رد فعل ضد أي جهة كانت. وهذه إشارة للجماعات والأصوات المعارضة لسياسته وتصوره في ر سم معالم الخريطة الدينية ومرجعيتها الفقهية والسياسية. لكن من الواضح جدا أن هذا التصور يتقاطع هو نفسه مع إيحاءات خطابات الملك، فالدولة حسب العديد من المراقبين توجد في صراع مع الزمن ضد منافسين ترى أنهم أحيانا يشكلون خطرا عليها، ليس فقط من الناحية السياسية وإنما أيضا من ناحية المرجعية الفقهية. فإذا كان من طبيعة تدبير الأمور الدنيوية العامة اختلاف الآراء والتي تعد في تصور الملك من “مظاهر الديمقراطية والتعددية في الآراء لتحقيق الصالح العام، فإن الشأن الديني على خلاف ذلك يستوجب التشبث بالمرجعية التاريخية الواحدة للمذهب المالكي النسبي الذي أجمعت عليه الأمة، والذي نحن مؤتمنون على صيانته”، ومن هنا يمكن فهم خلفية رد الفعل الذي صدر عن مؤسسات الدولة في الكثير من نوازل الفقه في قضايا حساسة.
لكن ما الذي يمكن أن تضيفه خطة الملك لاستكمال معالم رسم خريطة المجال الديني، ووضع التصورات السياسية المرتبطة بذلك؟ وما الذي يمكن أن تقدمه الهياكل الجديدة المقترحة؟
ربما يكون أحد أبرز معالم ما طرحه الملك هو مشروع ميثاق العلماء، وإعادة النظر في خريطة المجالس العلمية المحلية، على أساس تعميمها ليكون لكل إقليم أو عمالة مجلسها العلمي. فالملك يريد من خلال خلق هذه الهياكل الجديدة مراعاة خصوصيات وتقاليد أهل كل منطقة والتجاوب مع تساؤلاتهم الدينية. ويعتقد الكثير من المهتمين بالشأن الديني أن ترجمة هذه القرارات على أرض الواقع يمكن أن تفرز واقعا جديدا في التعامل مع المجال الديني، لكنه في نفس الوقت غير مضمون النتائج على الأقل في المدى المنظور، خصوصا أن التصور المطروح حاليا هو خلق 30 مجلسا علميا جديدا ليصل عدد المجالس إلى 60 موازاة مع مشروع شامل لتأهيل وتأطير المساجد بواسطة العلماء.
انقلاب الملك لم يقف عند هذا الحد، فالوضع الذي يوجد عليه أئمة المساجد يعتبر مزريا ويجعلهم في كثير من الأحيان عاجزين عن مواجهة أبسط متطلبات الحياة المفروضة في أناس مطلوب منهم ترجمة تصورات إمارة المؤمنين في تدبير الحقل الديني على أرض الواقع. ومن هنا يمكن فهم تمكين هؤلاء من التغطية الصحية بمبلغ يفوق 20 مليار سنتيم.
أدرع المملكة يراد لها أن تمتد في خريطة الطريق الجديدة إلى “رعايا جلالته” في الخارج، حيث سيكون لهؤلاء مجلس علمي خاص بهم ابتداء بأوربا، من المفروض أن يحميهم من “نزعات التطرف” والاستلاب، فالمغرب جد متخوف مما يمكن أن يأتي من الخارج. وكان هذا واضحا من خلال سياسة الدولة ووزارة الأوقاف في السنوات الأخيرة، حيث إن هناك رغبة في وضع اليد على مجال تأطير هذه الجالية أمام تزايد الأخبار عن تحرك منافسة للدولة داخل هذه الجالية.
الملك لم يخف طموحه من أن الهدف من مشروعه الجديد هو تأهيل وتجديد باعتباره من صلب الإصلاحات الوطنية الحيوية لتوفير الأمن الروحي والحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية... المتميزة بلزوم السنة والجماعية والاعتدال والانفتاح. وهذا هو بيت القصيد أمام المؤسسة الملكية ووزير الأوقاف المكلف بترجمة انقلاب الملك على أرض الواقع، لأنه لن يكون من السهل إحكام قبضة الدولة على كل المجال الديني، الحقل الملغوم الذي يهدد بالانفجار في وجه الجميع في أي لحظة إن لم يحسن تدبير خيوطه المتشابكة.
محمد الركراكي