حينما قال الحسن الثاني إنه لم يمت لأن البركة كانت معه
سقط رجل مسن بعد أن تلقى جسده حوالي خمسة عشر رصاصة. إنه البروفيسور "دوبوا روكيبير" جراح الحسن الثاني. قتل الدكتور بنيعيش، الطبيب الخاص للحسن الثاني. وسقط البروفيسور"همبر"، طبيب القلب الفرنسي صديق الملك بعد أن تفجرت بالقرب منه قنبلة" كروناد". و قتل سفير بلجيكا أيضا
"الجيش.. الجيش. أقول الجيش. لقد قام بثورة لصالح الشعب". هكذا تحدث الملحن عبد السلام عامر عبر ميكروفون الإذاعة الوطنية بالرباط معلنا عن قيام الثورة بعد نجاح عملية انقلاب 10 من يوليوز من سنة 1971، كما كان أصدقاء المدبوح يعتقدون.
وكان رفاق الجنرال المدبوح قد حملوا من قصر الصخيرات المطرب المصري عبد الحليم حافظ، الذي كان ينزل ضيفا على الحسن الثاني في عدد من حفلاته الخاصة، ليلقي خطاب الثورة. لكنه رفض وهو ما اضطر الانقلابيين إلى حمله إلى فندق هيلتون بالرباط حيث كان يقيم، والاعتماد على الملحن المغربي عبد السلام عامر بالنظر إلى أنه كان يتوفر على صوت إذاعي جهوري.
كان المغرب لا يزال يعيش حالة الاستثناء التي فرضتها أحداث الدار البيضاء لسنة 1965 وإضرابها الشهير، حينما اختار جنرالات الحسن الثاني الانقلاب عليه في واحدة من أعنف الأحداث الدموية بالنظر إلى عدد القتلى والمصابين، بعد أن فتح تلامذة مدرسة "هرمومو" الذين جيء بهم من أجل هذه المهمة، النار على ضيوف الملك القادمين من مختلف الأقطار وهو يستعد للإحتفال بذكرى ميلاده الثانية والأربعين.
يصف مبعوث مجلة "باري ماتش" الفرنسية، كيف كانت قاعة القصر الملكي للصخيرات تضم فرقة موسيقية تعزف بعض المقطوعات الغنائية، فيما كانت بضعة نسوة يرقصن وهن يحركن أردافهن ومقدمات بطونهن يمينا ويسارا.
خرفان المشوي على النار. ورائحة الشاي المنعنع تملأ المكان.
وعلى الطاولات العريضة، كانت صحون الكسكس، وأطباق سمك "اللونغوست" المشوي أيضا. بالإضافة إلى كل أنواع الحلويات والمرطبات.
كان عدد النساء قليلا مقارنة مع عدد الرجال. وكانت شمس يوليوز تنشر أشعتها على فضاء قصر الصخيرات حيث يحتفل الملك الحسن الثاني بعيد ميلاده الثاني والأربعين.
العاشرة صباحا. بدأت الأعداد الأولى من ضيوف الملك تصل إلى القصر قادمة من مختلف مناطق العالم. كان الفضاء جميلا حيث يتوزع القصر عبر جناح للنساء، وآخر لأبناء الملك. وفي الأمام، يوجد ملعب للكولف حيث حطت طائرة هيليكوبتير، وبعض السيارات الفارهة التي توصل بها الملك كهدايا في عيد ميلاده من قبل بعض أقاربه.
شاطئ البحر ومسبح العوم. وأمام كل هذا نصبت خيمة الملك الخاصة التي تضم ضيوفه الخاصين جدا.
في حدود الثانية عشر والنصف، بدأ عدد الضيوف يرتفع ليصل ما بين 600 و700 ، حيث تجمعوا هنا وهناك يتبادلون الحديث ويتعارفون فيما بينهم وهم متحلقون حول الموائد التي تحيط بالمسبح.
كان الجنرالات يرتدون " التيشورتات" القصيرة. وكان الوزراء بأقمصة الصيف الملونة. فيما يتحرك السفراء بأحذيتهم الرياضية بدون تكلف. وكان آخرون قد أخذوا لهم حماما بشاطئ البحر أو بمسبح القصر، الذي اختار الدكتور بنيعيش، الطبيب الخاص للملك، والذي سيكون أحد قتلى السبت الأسود، أن يلقي بأحد زملائه بداخله وهو يرتدي ملابسه.
كان الجنرال أوفقير قد ارتدى قميصا بألوان زاهية. فيما كانت جلابة الأمير مولاي عبد الله، شقيق الملك، البيضاء أكثر إثارة للانتباه.
كان الجميع مسترخيا بعد أن قال الملك لضيوفه أن عليهم أن ينسوا كل البروتوكول اليوم، الذي هو يوم للمتعة فقط.
حوالي الساعة الواحدة زوالا. حضر الملك، وهو يرتدي لباسه بلون بين الرمادي والوردي. يبستم أمام الجميع الذي وقف للسلام عليه وهو في اتجاه خيمته الخاصة
نصف ساعة بعد ذلك، سيسمع صوت الرصاص، ثم هرج ومرج وهرولة من خارج القصر في اتجاه شاطئ البحر. أصوات ونداءات وعويل. اتجهت الراقصات إلى داخل إحدى المصحات هربا من هجوم عناصر الجيش المحملين ببندقياتهم، والذين شرعوا في توجيه فوهات البنادق وإطلاق النار على من وجدوه في طريقهم.
الذعر في كل مكان من أمكنة القصر. الأجساد تتساقط. ما الذي يقع؟ من يملك الجواب؟
لا أحد يملك الجواب.
هل يتعلق الأمر بثورة، أم بانقلاب، أم هو مجرد شريط سينمائي عنوانه الرعب؟
لقد كان الجنود صغارا بأعين لامعة، ودسيسة واضحة. كانوا في حالة غير طبيعية من خلال المخدرات التي أعطيت لهم، أو بسبب ضربات الشمس التي تلقوها خلال هذا اليوم القائظ من أيام الصيف.
سقط رجل مسن بعد أن تلقى جسده حوالي خمسة عشر رصاصة. إنه البروفيسور "دوبوا روكيبير" جراح الحسن الثاني.
قتل الدكتور بنيعيش، الطبيب الخاص للحسن الثاني.
وسقط البروفيسور"همبر"، طبيب القلب الفرنسي صديق الملك بعد أن تفجرت بالقرب منه قنبلة" كروناد".
قتل سفير بلجيكا أيضا.
كان الجميع يسير فوق الجثث والدماء، أمام قطع المشوي التي سقطت هي الأخرى من على النار.
لقد مر الأمير مولاي عبد الله، بعد أن تلطخ جلبابه الأبيض بدماء الجثث التي تملأ المكان
كانت في سماء المكان طائرة هيلكوبتر وكأنها تراقب ما يقع. كان بعض السفراء يعرضون جوازات سفرهم ليقولوا للجنود إنهم مجرد ضيوف، فيما كان الجنود لا يعيرونهم أي اهتمام وكأنهم لا يفهمون لغتهم، وهم يحطمون الكاميرات وساعات الضيوف التي سقطت أرضا.
لقد تم تجميع الضيوف وأمرهم الجنود بالوقوف في مواجهة الجدار وهم يرفعون أيديهم، فيما كان الرافضون يتلقون الضربات بواسطة مؤخرة البندقية. أما الجنرالات الذين كانوا يرتدون أقمصتهم الصيفية، فكان الجنود يخرجونهم من الصف ليسقطوهم قتلى.
لكن أين الحسن الثاني؟ أين اختفى الملك بين كل هؤلاء؟
مرت ساعتان على هذا الوضع حيث الصراخ والعويل والقتلى والدماء. ولا أحد فهم ما يقع، ولا من يستطيع وقف المجزرة.
لحظة سيتقدم أحد الجنود، الذي كان يحتجز الملك الحسن الثاني، ليقبل يديه بعد أن كان قادرا بطلقة من بندقيته أن ينهي تاريخا بأكمله، ويسدل الستار على حكم ملك اسمه الحسن الثاني. لكنه لم يفعل. واختار الحل الذي سيقول عنه الملك الراحل إنه المعجزة التي حلت، والتي أبانت على أنه لم يكن يوم موته.
أسدل الستار إذن عن انقلاب الصخيرات أو مجزرة عيد ميلاد الملك، لكنه رفع ثلاثة أيام بعد ذلك حينما تم تنفيذ حكم الإعدام في حق الضباط والجنرالات والكولونيلات على أعمدة الإعدام، وعبر شاشات التلفزيون، بعد محاكمة صورية انتهت بسرعة قياسية.
لقد كانوا حميرا، يعلق الجنرال أوفقير.أما الملك، فقد قال إنهم قاموا بانقلاب متخلف. زد على ذلك إنه لم يكن اليوم يوم موتي.
لقد كانوا جنرالات وضباط وكولونيلات، وقادة عسكريين لجهات المملكة. بل فيهم من تربطه بالملك علاقات حميمية. ومع ذلك كان قرار الانقلاب قد أعد على نار هادئة وصلت فيه الترتيبات، كما سيشرح ذلك الملك الحسن الثاني، لحوالي السنتين دون أن تصل إليهم يد المخابرات المدنية والعسكرية.
لكن لماذا قتل الجنود كل تلك الأعداد الكبيرة من ضيوف الملك دون أن يقربوا من الملك، الذي ظل محتجزا بداخل غرفة من غرف القصر، وتحت حراسة جندي من جنود المدبوح؟
سؤال طرحه المتتبعون وقتها، ولا يزال طرحه مشروعا إلى الآن.
هل كانت المعجزة، التي سيتحدث عنها الحسن الثاني في استجواباته الصحافية، مع ما رافقها من بركة حيث ظل يردد أنه ظل يقرأ إحدى سور القران كل يوم، وهي التي كانت تقيه من كل شر ومكروه، وهي السورة التي قرأها يوم العاشر من يوليوز من سنة 1971، أم أن المتمردين كان لهم رأي آخر.
الكثيرون رأوا في عدم تصفية الملك، كان مخططا له من قيادة الثورة. أما صيغة العمل، فكانت تهدف إلى اعتقاله ومحاكمته أمام الرأي العام المغربي طمعا في كسب تعاطف المغاربة الذين قال عنهم الملك الراحل إنهم لن يقبلوا بغير الملكية.
وبعد أن تكون المحاكمة قد كشفت للمغاربة عن أخطاء الحسن الثاني، ستتم تولية ولي عهده سيدي محمد ملكا يكون تحت رحمة مجلس الثورة الذي سيدير الشأن العام في انتظار أن يصل الملك الجديد شن الرشد. ولذلك كان المتمردون قد حددوا مهام كل واحد منهم بمختلف الجهات.
فشل انقلاب الصخيرات بعد أن استفاق الجندي الذي كلف بحراسة الملك بداخل غرفة من غرف القصر، من مخدره.
وأدى الجنرالات الثمن غاليا بعد أن تم إعدام قادة الانقلاب ليلة عيد أضحى، وأمام شاشات التلفزيون ليتفرج عليهم هذا الشعب المغربي الذي قال بلاغ التلفزيون عشية الانقلاب إنه قام بذلك من أجله، ولصالحه.
هل كان انقلاب العاشر من يوليوز مجرد تنبيه سيستمع إليه الحسن الثاني جيدا
أحمد أمشكح عن اسبوعية الايام